عابرٌ كالوطن / الجزء التاسع
بقلم / زينب المشاط
كُنتُ على موعدٍ لتصوير فلمٍ وثائقي خاص بالمناطق العشوائيه , ويستعرض من خلاله حياة النساء الارامل و الاطفال الايتام أولئك الذين ولِدوا امواتاً ...
أحلامهم وقلوبهم ميته مرتبطين بين حياةٍ وموت بمصيرٍ مجهول , بدأت بتصوير تلك المناطق كمن يحاول إدانة الحياة بجرائمها , أم إنها جرائمنا نحن ؟؟ وتلك الوجوه التي يسكُنها اليأس مبتسماً وتلك البطون التي يسكُنهاالفقرُ غنياً وتلك العقول التي تمتلك العلم جهلاً ...
أطفال خلعوا البراءة عن وجوههم , يمشون حفاةً على اشواك جراحهم , يرتدون ثوب العزة ممزقٌ كما ارتدى الوطن ثوب الكرامة مطرزاً بالاذلال والهزيمة , نساءٌ ترملن قبل أن تُزف الى موطنها الجديد , شيوخٌ فقدوا هيبة العقال وكرامة العباءة العربيه , أُناسٌ لم يسكنوا العشوائيات بل سكنتهم العشوائيه , لايحملون هويةً إلا مصائرهم المجهولة .
في كل لقطةٍ التقطها كُنت اضرب الوطن بسوط الملامة , وأصرخُ بوجه المجالس والبرلمانيون والكراسي المزيفة التي احتوت اجساداً بدمٍ بارد لاتعرف الرحمة . و بين بيوتٍ يسكُنها بردُ الشتاء وتُذيبها نيران الصيف فلا تشعر الارتياح , وأنا آهٍ انا بين كل هؤلاء لا يسكنني سوى صرخةً تعوّدتُ كبتها , صرخةً اسمها وطني مجتمعي واسمها جهلنا , فمتى سأطلقها بجنون صمت وأنفي سكنة الكلمات تلك التي تتلوع كمذبوحٍ في صدري .
أمسكت بي يدٌ فأيقضتني من شرودِ افكاري , واذا بها سيدةٌ مسنة قالت لي بلهجةٍ عراقيه
- اشربي استكان الچاي يا بنتي
- شكرا (يُمه) ... كانت كلمة (يُمه) تقال للأم وكانت تشعرنا بالدفيء والتودد للنساء المسنات
كنت احتسي الشاي بصمتٍ كمن يُفكر بشيءٍ ما , ويبدو إن العجوز كانت تراقبني فقالت
- أعاشقةٌ أنتِ يا ابنتي ؟
- أجبتُ بملامح من يحاول نفي تهمةٍ عنه .. ولما السؤال ؟
لأنك عاشقةٌ على افتراق , كمن يبحثُ عن عشق وطن , حين لا يتعض المرءُ عشقاً يجد نفسهُ منفياً حتى من مدن الحياة
العشقُ وهمٌ مؤقت نتنفس من خلالهُ لحظات بعدها نختنق ونموت غرقاً وهذه هي مرحلة الفراق تلك التي تسكُنكِ الان .
لم أُجِبها كنت أعلم إنها تماماً على حق
- وما ادراكِ سيدتي قد أكون على مقربةٍ من عشقٍ أحاول إدراكه
- لا الحبُ يشبه المرض حين نشفى من المرض نمرُّ في مرحلة احتضان المرض وقتها نكون اكثر عرضةً للاصابة بالامراض كذلك هو الحب نحن نمرُّ بعد الفراق بمرحلة الاحتضان للحب ونكون عندها اكثر عرضةً للاصابةِ بوهم الحب لكننا سرعان ما نصحو منها ونجد أنفسنا قد تورطنا بوهم حبٍ اخر وجرحنا قلوباً أخرى معنا , وهذه مرحلةٌ خطره عليك تجنبها .
كانت إمرأةٌ لايبدوا على مظهرها ما تحملهُ من فلسفة الفكر وبلاغة الكلمات لدرجةٍ ادهشتني , سألتها بفضول
- وكيف لكِ معرفة كل ذلك ؟
- تستغربين حين تَرينَ عجوزاً مثلي تسكن في مثل هذا المكان وتترعرع في هذه البيئه وترتدي تلك الثياب التي توحي بجهل الافكار , لكننا نحن ياعزيزتي الذين كتبنا بجهلٍ ابلغ الكلمات وبثقافةٍ فطرية قدنا البلاد على مدى عصور والدليل إن هذا البلد كان في الماضي أعظم بكثيرٍ من الان ..
استمرت بالتحدث عن بيئتها التي انحدرت منها وعن واقع تلك المناطق التي تسكنها وكنت اصغي لها جيدا كمن يبحثُ بين كلماتها عن دليلٍ لشيءٍ ما , وكنت امشي خلفها كمن يضيعُ الطريق ولم يجد لهُ دليلاً سوى تلك العجوز المسنة , وجدتُ فتاةً تجلسُ في زاوية الغرفه وكانت على ما يبدو تبلغ من العمر مابين السادس عشر والثامن عشر إن لم أُخطيْ التقدير , كانت برغم كل الضجيج الذي يُحيط بها تتصفُ بالهدوء , وكأنها ليست على درايةً بما يدور حولها , أخبرتني العجوز إن تلك الفتاة هي حفيدتها , توجهت نحو الفتاة وجلست بجانبها قائلة
- ماذا تفعلين ؟
- أكتُب
- أعلم ذلك , لكن ماذا تكتبين
لم تجبني الفتاة .. قالت العجوز بلا مبالاةٍ كمن تعوّد الامر
- إنها لن تجيبُكِ
- ولما لا ؟؟؟ (التفت لها قائلة)
- كانت في المدرسه , وقد جبرها والدها وأباها على ترك دراستها
- لماذا ؟
- لأن لها افكارٌ لاتتناسب مع بيئتنا , فهي ترغب بإكمال دراستها , كما إنها تميل الى كتابة بعض الاشياء التي لا تناسب المرأة في مجتمعنا , كما يعتقد أباها إن المرأة خُلقت للبيت و الزوج وتربية الاطفال .
شردتُ قليلاً في افكاري , المرأة خُلقت للبيت ولزوجٍ يغتصبُ مدنها كل ليلةٍ بلا مشاعر هذا ما يَردُ في قاموس رجال هذه البيئه , أما رجال المدينة أؤلئك الذين يطلقون على انفسهم مصطلح التحضُرِ والثقافه فهم يهمشون المرأة بشكل أخر ويقومون بأغتصابها بطرقٍ أُخرى بكلماتٍ يطلقونها كالرصاص على الطرقات وبنظراتهم التي يمررونها كل يومٍ على اجساد النساء , ويثورون بجنون إن نظر رجل أخر لأمرأةٍ تعود لهم كزوجتهم أو ابنتهم , عندها استرسلتُ بحديثي مع تلك العجوز لمعرفة المزيد
- وعلى كاهل من تقع المسؤلية الاكبر
- في بيئتنا هذهِ يتزوج الرجل ويتكيءُ على سرير الزواج كأسدٍ كسول , وبرغم سوء الحياة وصعوبتها تقوم الزوجة بالعمل في سبيل توفير ما يسد حاجة الاسره كما إنها تنجب الكثير من الاطفال خضوعاً لرغبة الزوج وأهلُهِ واقربائهُ , فعلى المرأة أن تنجب الكثير من الاطفال حتى إن لم تستطع توفير ما يسد حاجتهم ...
قد تجدين هنا رجالاً مسؤلين لكنهم قله , وتجدين أيضاً بعض الرجال الذين يثورون على طابع بيئتهم ومجتمعهم في هذه المناطق وذلك لأنهم اختلطو بأُناس المدينه وصاروا يميزون بين السيء والجيد فثاروا على احكام بيئتهم وخرجوا عنها ليرتقوا بمستواهم ونجحوا في ذلك تماماً .
كانت تتحدث وتسير وانا خلفها حتى استوقفني منظر سيدةً تنتظر ساعات ولادة طفلٍ جديد تجلسُ الى جانبها عجوزاً يبدو على ملامحها الغضب , تُملي عليها بعض التعليمات لغرض تسهيل عمليةِ ولادتها
قالت العجوز
- إنها السيدة ام محمد , القابلة المأذونه لهذه المنطقه
- إنها توّلدُ الكثير من النساء وتستر الكثير من الفتياة
- تسترهُنّ ؟!
- أنت متزوجه ؟
- لا
- كيف سأشرح لكِ الامر إذاً , نحن في بيئةٍ عشوائيه يكثر بها الاختلاط ويمنع بها العشقُ جهرةً , كما إن مجتمعنا تخلى عن عبائة الخجل كثيراً وصار الرجال يطلقون وعود الحب وعهود الزواج بلا ضمير لتقع المرأة في مشبكة الخطيئه , ولستر الفضائح تلجأ امهات أو قريبات تلك الفتياة لأم محمد لمعالجة الامر وجعل الفتاة صالحةً للزواج كأي فتاة طبيعيه , هذهِ المرأه تعرف الكثير عن فتيات الحي
وقد تسترت على الكثير منهن ...
كُنت أُفكر في أي مجتمعٍ نحن نعيش ذلك الذي يُقيمُ شرف الانسان من خلال جسدهِ لا من خلال ضميره , صار مقياس الشرف لدينا قطعةٌ في الجسد يمكنُ استرجاعها بعمليةٍ صغيره ووهم الاخرين إننا شرفاء , ونسوا ضمائرهم التي لن يسترجعونها لو اضاعوها يوماً مهما فعلوا , شعرت بعدها بالدوار لكُثر ما رأيتُ وسمعت وصُدمت , أنا التي كنت اشكو خسارة الوطن , لم أكن أعلم إن الوطن منخوراً لهذا الحد , كان الوطن يحملُ الكثير من تلك الامراض , يحملُ الكثير مما لايمكن الكتابة عنه فاحياناً أكره الاقلام التي اكتبُ بها واحقد على تلك الحروف التي اسطرها , كثيراً ما أفكر إننا نرتكبُ جرائماً من نوعٍ أخر فنحن نبدعُ من خلال خيبات الاخرين واوجاعهم , فنحن من نسطر الحروف على ورق لسنا ملائكةً ولا صالحين نحن نرتدي ابشع اثواب الشياطين
نرتكب جرائماً لايحاسب عليها القانون نقتل على ورق نسفك دماء العشق على ورق
ونمضي واهمين من حولنا إننا نحن ضحايا العشق الازليين ....
لم أكن أعلم ما يجب أن اقول أو اكتب , أو ما يجبُ فعلهُ بعد كل هذا , أين هو زوربا من كل ذلك أما يأتي ليبكي وطني راقصاً , أتُراه كان سيجهشُ خراب وطني؟ , أكان سيسميه خراباًجميلاً ؟
وأنا مَنْ سأجهشُ راقصةً ومأساةُ من سأبكي بعد اليوم ؟
إرسال تعليق